كفن الغريب

IMG_8713
لحسن العسبي يتلو الكلمة وفي الخلفية صورة الراحل مصطفى المسناوي

 الكلمة التي ألقاها الكاتب الصحافي المتألق لحسن العسبي، في لحظة استحضار روح الكاتب والناقد الكبير مصطفى المسناوي في حفل افتتاح الدورة السابعة عشر من المهرجان الوطني للفيلم بطنجة.

لحسن العسبي

  في محفل مماثل، عادة ما يبتدأ الأمر بإطلاق نداء “silence ça tourne”. لنتصور معا هذا المشهد:

  الغرفة 406، بالطابق الرابع للفندق الأميري الفخم “ماريوث الزمالك” بالقاهرة. التهاليل التي تسبق آذان الفجر انطلقت، حين شرع البطل يدرع الغرفة جيئة وذهابا وألم شديد يعتصر بطنه. يتلوى من الحرقة، ويأمل أن يتجاوزه المغص، متسائلا، بصوت خافت: هل كان علي تناول عشاء البارحة اللبناني. ملامحه قلقة بعض الشئ. يدخل بيت الراحة ويغسل وجهه، وينتظر أن يزول الألم. الألم يتزايد، والساعة دقت السادسة صباحا. في الخارج، ماء النيل يواصل انسيابه صوب البحر الأبيض المتوسط، والشمس لم تشرق بعد. قرر البطل، أن يتصل بمكتب الإستقبال في الفندق، في السادسة والربع، ويطلب حضور طبيب لأنه مريض وأنه يتألم. بقي يذرع الغرفة حافيا، مرتديا لا يزال لباس النوم، وقد أزال عنه سترته الصدرية وبقي بلباسه الداخلي الخفيف فقط. حمل السماعة، ركب رقم الغرفة 433، في ذات الطابق الرابع، ليوقظ صديقه المغربي، معتذرا بجملة خجولة “سمح ليا خويا فيقتك. تانحس راسي ماشي هو هذاك”. أجابه صديقه: هل اتصلت بطبيب الفندق؟ أجابه بالإيجاب وأنه صاعد إليه. أغلق الصديق السماعة وخرج مسرعا صوب الغرفة 406، التي في آخر الطابق، تكاد غرفهما تتقابلان واحدة في أقصى اليمين والأخرى في أقصى اليسار. وجد الباب مواربا، والبطل يذرع الغرفة من شدة الألم في بطنه. فهم الصديق أن الأمر أزمة قلبية، فسأل البطل هل تناولت دواء القلب البارحة، أجابه أن نعم، مضيفا أنه ما كان عليه تناول عشاء البارحة، أجابه الصديق أن الأمر ربما شئ آخر. سأله إن كان صدره يؤلمه، أجابه البطل “قليلا”، فألح في ضرورة نقله بسرعة إلى المستشفى. حضر حينها الطبيب، الذي كان لا يزال في حال الزائر غير المدرك لخطورة الحالة، ألح الصديق في طلب سيارة إسعاف، لكن الطبيب لم يقتنع أن الأمر أزمة قلبية سوى بعد أن قام بتخطيط للقلب. هنا تغير حال الطبيب وأصبح متوثبا. نزل الصديق مسرعا إلى بهو الاستقبال يستعجل سيارة الإسعاف، التي وجدها قد وصلت للتو. صعد من مصعد خاص، فوجد البطل ممددا، يتلو الشهادتين، مازحه الصديق أن الوقت لا يزال باكرا للرحيل، على عادة شغبهم في الكلام، لكن البطل لم يعره اهتماما ولم يجبه، مصرا على تلاوة الشهادتين. جن جنون الصديق صارخا بسرعة نقل صديقه ورفيقه، الذي بدأت أصابع يده تزرق وبدأ يدخل في غيبوبة متقطعة. كانت الساعة السادسة و45 دقيقة، حين نقل البطل إلى سيارة الإسعاف. السادسة و 50 دقيقة، في منتصف الطريق إلى المستشفى الأمريكي بالزمالك، انطلق فجأة القرآن في هاتف البطل وهو في جيب صديقه، حاول إسكاته فصعد اسم إبن البطل بالإمارات. ما هذا تساءل الصديق مكذبا نفسه. حينها بالضبط أعلن الطبيب المرافق أن “صاحبك في رحمة الله”.
  هذا المشهد، ليس مشهدا سينمائيا، بل هو مشهد من الحياة في كامل واقعيتها. والسؤال هنا أليست السينما محاكاة للواقع وللحياة في الأول وفي الأخير؟. ترى ما الذي سيقوله الناقد مصطفى المسناوي عن هذا المشهد الذي هو بطله، هو القادم أصلا من الفلسفة، تلك الشجرة التي منحته أن يكون متعددا في واحد؟. أليست الحياة عابرة، والصورة باقية أثرا عن الإنسان، عن الذي كان والذي صار؟. إن شجرة الفلسفة عند المسناوي هي الجدر والباقي فروع وأغصان. غصن المربي الأستاذ الجامعي، غصن المناضل اليساري الذي ذاق السجن والاعتقال. غصن القاص، المقل نعم، لكنه المؤسس. غصن كاتب السيناريو. غصن الناقد السينمائي. غصن المثقف العضوي المغامر بعناوين للنشر جرائد ومجلات تربوية وفكرية فارقة غير مسبوقة. ثم أخيرا غصن رجل السخرية بامتياز، كتابة صحفية من خلال عموده الشهير “يا أمة ضحكت” ثم في الحياة. مع المسناوي لا تشعر أبدا بالملل. أنا متأكد أنه هناك يبتسم ويضحك، ويقول “دادا”، لأنه أمازيغي سوسي مثلي، فنحن جيران جغرافيا، فهو من إغرم وأنا من تالوين، هو من بلاد الفضة وأنا من بلاد الزعفران.
شكرا لعائلة المسناوي التي شرفتني أن أتناول الكلمة في هذا المهرجان. شكرا للمركز السينمائي المغربي على جميل المبادرة، شكرا لقبيلة المسناوي الإبداعية على وفاء الإحتضان. شكرا طنجة ومهرجان السينما الوطني. شكرا لأطر السفارة المغربية بالقاهرة، الذين اجترحوا المستحيل كي يعود الإبن إلى أمه الأرض، واسمحوا لي أن أذكر منهم بالإسم: عبد الصمد المنقاشي، عبد المجيد الركراكي ومحمد ميزرا. شكرا لمصر التي كانت لحظة المحنة كبيرة، أفرادا ومؤسسات. فقط نسيت أن أقول لكم، إنه في خلفية ذلك المشهد كان يأتي شفيفا صوت المطربة شادية وهي تصدح بأغنيتها:
  “قولو لعين الشمس ماتحماشي، لاحسن حبيب القلب دا للي صابح ماشي”
 بينما البطل، في آخر المشهد، كان يردد لرفيقة دربه أبيات الشاعر السوري عمر أبوريشة، الخالدة:
“رفيقتي، لا تخبري إخوتي
كيف الردى علي اعتدى
إن يسألوا وقد راعهم
أن أبصروا هيكلي الموصدا.
لا تجفلي، لا تطرقي خشعة
لا تسمحي للحزن أن يولدا.
قولي لهم سافر
قولي لهم إن له في كوكب موعدا”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *