حاوره يوسف كرماح
سعدي يوسف أحد الأسماء البارزة في الشعر العربي. شاعر لم تنل منه أعطاب الشيخوخة ولم تصبه بالفتور، فرغم أنه يشارف على العقد التاسع من عمره إلا أنه ما يزال وفيا لمحراب الإبداع، يمارس شغبه الجميل في تجديد النص الشعري وإحياء بعضا من روح النصوص التي يترجمها ببلاغته وشاعريته التي لا يمتاز بها غيره. ابن المنافي الذي ظل الحنين يطارده، عاش خارج بلاده أكثر مما عاشه فيها. شاعر رحالة بامتياز، تسكعنا في قصيده بين ايطاليا وأمريكا وبرلين وبغداد ومكناس وطنجة ومراكش…، ولقد صدق حين تماهى مع ابن بطوطة في رحلاته. سجله الإبداعي حافل بالمنجزات والأعمال الخالدة والزاخرة، آخرها كتابه حول ابن بطوطة الموسوم ب “الدروب الذهب”، وديوانه الشعري “محاولات في العلاقة”، وترجمة “حياة في خريطة” للشاعر البرتغالي نونو جوديس. وفيما يلي نص حواري معه بمناسبة زيارته للمغرب لتقديم كتبه في المعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء.
ـ الأستاذ سعدي يوسف مرحبا بك أولا في بلدك المغرب، وتسعدنا زيارتك الدؤوب للمغرب، بداية، سنتجاوز السؤال التقليدي الذي يروم التعريف بالكاتب لأن الشاعر سعدي يوسف غني عن التعريف ولنعرج إلى الحديث عن الانجازات الأدبية الجديدة.
ـ أنا أحضر إلى المغرب هذه السنة لتوقيع ثلاثة كتب، جئت فرحا، وللمرة الأولى أحمل أسفاري، كالحمار يحمل أسفارا (يضحك بفرح طفولي) ؛ واحد اسمه “حياة في خريطة” للشاعر البرتغالي “نونو جوديس” الفائز بالأركانة السنة الماضية، ترجمته إلى العربية وحرصت أن يكون حاضرا في المعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء في دورته 22، كتبت في ظهر الكتاب قصيدة أقول فيها “أن تكون شاعرا في البرتغال، أمر ليس باليسر الذي قد نتصوره…”. والكتاب الثاني ديوان شعري لي اسمه “محاولات في العلاقة” صدر في 2016 خصصت فيه إهداء للشاعر العراقي الراحل مؤيد الراوي، أما الكتاب الثالث فهو عن “الدروب الذهب” يدور بيني وبين ابن بطوطة، وأنا أفتخر به. لأنني بعد قراءتي لرحلة ابن بطوطة، وجدت أنه ذهب إلى أكثر من ثلاثين مكانا، وهو كتب عن هذه الأمكنة وأنا كتبت، وهذا الكتاب أعتبره بمثابة تأليف مشترك بيني وبين ابن بطوطة، وأنا سعيد جدا لأن ابن بطوطة من طنجة وأنا دائما أزور طنجة وأعشق طنجة، كل عام تكون لي فيها إقامة. وأنا جد مرتاح لمجيئي هذه السنة إلى معرض الدار البيضاء للكتاب، للاحتفاء بكتبي ولإحياء صلة الرحم مع مجموعة من الأصدقاء.
ـ أنت مولع بالترجمة، ترجمت مجموعة من الأعمال آخرها “حياة في خريطة” للشاعر نونو جوديس الذي تحمل بعضا من أسفاره. كيف تعيش هذا التفاعل بين اللغات ؟
ـ في الحقيقة، الترجمة مصادفة ومغامرة كبيرة، وأنا لا أترجم إلا الأعمال الجيدة والمتينة. ولكن سأقول لك شيئا، فعندما أحاول نقل نص من لغة أخرى إلى اللغة العربية، فأنا حريص على أن تظل لغتي هي أجمل لغات العالم وأفضلها. عندما نقلت “أوراق العشب” لوالت ويتمان إلى الغة العربية، فكرت بأنه علي أن أعطي شحنة بسيطة من البلاغة للنص، ليصل إلى شريحة واسعة من قراء الشعر العربي. أما عندما اشتغلت على نص الكفافي المقتصد جدا والمحقق جدا، بدلت مجهودا مضاعفا لأنقل للقارئ العربي وَحْي الكفافي. كان علي أن أزخرف في قصيدة الكفافي لأنقل للقارئ روح قصيدة الكفافي.
أنا أعتقد أن الإطلالة على المشهد الشعري العام مسألة مهمة جدا ويستطيع المرء بلوغها، بالاضطلاع والتثقاف والاستفادة من خبرات الآخرين. وكثير من الشعراء أصدقائي، نحن كثيبة واحدة في مختلف أنحاء العالم، نتعلم من بعضنا البعض ونهدف إلى رسم الجمال. ونونو جوديس شاعر كبير. وكما كتبت في قصيدة، من الصعب أن تكون شاعرا في البرتغال. وأنا أعتز بأن أتي بهذا الكتاب إلى معرض الدار البيضاء. وفكرة الترجمة جاءت في السنة الماضية لمّا جاء صديقنا نونو جوديس وتسلم جائزة الأركانة ووعدت الحاضرين في القاعة بأنني سأترجم خمسين قصيدة لهذا الرجل إلى اللغة العربية، وقد صدق حرا ما وعد.
ـ في إطار علاقتك بالمكان، هل يمكننا أن نتوقع مذكرات شعرية جديدة عن مدن كما كتبت عن طنجة في “ديوان طنجة” وعن مراكش ومكناس، وأنت محب لهذه المدن وتزورها باستمرار؟
ـ ربما مكناس أحبها أكثر، وهي مَدِينَةُ لي بالكتابة، لأنني أقمت فيها مدة أطول وقرأت عن تاريخ فاس، عن مولاي إسماعيل، عن المعمار وبوابة المنصور. حقيقة، أشياء كثيرة في مكناس تهمني، ثم الآثار الرومانية هناك، حيث مربض “وليلي” التي زرتها مرتين، ولي كثير من الأحباب والأصدقاء في مكناس. وأعتقد أن هذه السنة في زيارتي للمغرب سأذهب إلى مكناس. وبخصوص علاقتي بالأمكنة فهي نابعة من فكرة فلسفية تبلورت خلال أربعة عقود، بحيث لا أستطيع أن أكتب إلا بالاعتماد على الحاسة. اعتماد الحاسة يقتضي أساسا المكان.
ـ الأستاذ سعدي يوسف أنت من بين الأوفياء لمحراب القصيدة، ألا تفكر في خيانتها مع الرواية مثلا خصوصا وأن الزمن زمن الرواية؟
ـ والله أنا لا أفكر في كتابة الرواية، عندي رواية كبيرة كتبتها في التسعينيات اسمها “مثلث الدائرة”. ولدي أيضا مجموعة قصصية عنوانها “نافذة في المنزل المغربي”، ولكن هذه المجموعة قديمة، كتبتها في السبعينيات، ربما في 1974. أقول في مطلعها في قصة حانة لامبيانس :” كان ضحىً ربيعيٌّ غريبٌ ينتشر في شوارع المدينة، وفي السماء التي لا يُلمح فيها سوى قطع صغيرة من غيوم بيض عالية جداً….”.
ـ نعم، قرأتها، وهي مكتوبة بلغة بليغة وشاعرية.
ـ ربما لأن الشاعر ترتحل معه قواميسه.
ـ طيب أستاذ سعدي. ما هو تقيمك للشعر المغرب، لا سيما وأنت تعرف مجموعة من الشعراء وجايلت أسماء عديدة؟
ـ أنا علاقتي بالشعر المغربي قديمة جدا. يمكنني القول، من أوائل حركة التحديث في الشعر المغربي، وحتى الآن أتابع الشعر المغربي، ليس فقط عبر النصوص وإنما العلاقات مع الأشخاص، مثلا الشاعر محمد … ( لا يتذكر سعدي يوسف اسمه كاملا)، كان صديقا لي. على كل حال، في رأي، لا يمكن أن نفصل، أو نضع الأسوار الصينية بين الشعر المغربي والشعر الذي يكتب في بلدان أخرى مثل تونس أو الجزائر أو العراق أو مصر أو سوريا، لأن القصيدة المكتوبة باللغة العربية، كانت دائما منذ العصر الأموي عابرة أقطار، يصل النص هنا (المغرب ) فينتقل إلى الأندلس، يكتب مثلا في بغداد يصل إلى المغرب أو إلى الأندلس. يعني يوجد فضاء شعري عابر للأقطار، لكن عندما نريد أن نؤرخ ونخصص، نقول الشعر المغربي، لكن عندما نريد أن ندرس الأشكال الجمالية، حركة التحديث، هنا ينبغي أن ندخل الشعر المغربي ضمن الفضاء الشعري العربي. الشعر الأمازيغي هذا جانب آخر، أنا أتحدث عن الشعر العربي فقط.
ـ سبق وأن قلت بأن الشعر المغربي الآن لا يقول شيئا. كيف ؟
ـ هذا جاء في سياق ملتبس. أنا دونت عبارة لكنها حملت أكثر مما تستحق. وقد سبق وأن رديت على هذه الكلام الذي أثار ما لم أكن أتوقعه، وإذا رجعت إلى صفحتي في الفيسبوك ستجد ردي .
وهذا رده: “تعليقٌ بسيطٌ مني حول ملحوظةٍ وردتْ في الفايسبوك، أثارَ ما لم أكن أتوقّعُه، بل أخشى أن يُحملَ التعليقُ على غير محمله، أو أن يُحَمَّل فوق ما يُطيق. كنت زعمتُ إن القصيدة المغربية لم تعد تقول شيئاً الآن. وسبقَ لي أن قلتُ إن القصيدة العربية بعامّة لم تعد تقول شيئاً الآن. وحين سُئلْتُ مرّةً عن الحركة الشِعرية في إنكلترا، قلتُ: ليس في بريطانيا شِعرٌ الآن. أظنُّ أن لي الحقّ في إبداء رأي، وبخاصة في ما اتّصلَ بالشِعر وأهله.
لا أظنني بعيداً عن الساحة المغربية. أنا أتابع الشِعر المغربي منذ عقود، وقد ربطتني علائقُ حميمةٌ مع قائليه ابتداءً من المجاطي، وليس انتهاءً بمن يحاول كتابة الشِعر من الفتيان المغاربة الآن… والناس يعرفون أنني منتظم الإقامة في المملكة المغربية، وأنني اخترتُ طنجة موئلاً لي، آتيها حين يرهقني القرُّ والثلج. كما أن بيت الشِعر في المغرب كرّمني بجائزة الأركانة الرفيعة. وهناك جائزة للشعراء الجامعيّين الشباب باسمي في جامعة عبد المالك السعديّ. بل أن ما كتبتُه عن المغرب في مُجْمَل متني الشِعري يفوق ما كتبتُه عن العراق! …”
ـ ذكرت في برنامج تلفزيوني ثقافي مغربي بأن في المغرب هناك من يكتب ببلاغة فائقة لا يكتب بها المشارقة وذكرت المهدي أخريف واستثنيت أسماءً أخرى كثيرة لها باعها البلاغي. في نظرت ألا توجد أسماء مغربية تكتب بلغة متينة وبليغة من قبيل محمد برادة مثلا أو مبارك ربيع أو عبد الله العروي …
ـ هناك الشاعر بنطلحة، شاعر مهم جدا ويكتب بلغة متينة، هذا فيما يخص الشعر، وأنا أعتبره أهم الشعراء الأحياء في المملكة المغربية ، فهو صديق لي ، وعندما أذهب إلى فاس أتقصد أن أزوره في بيته، احتراما له وتقديرا له، وإكراما له لمساهمته في تحديث القصيدة المغربية.
ـ هناك ملاحظة بخصوص أعمالك سواء الشعرية أو النثرية، مفادها أن سعدي يوسف يمزج في كثير من أعماله بين المذكرات أو اليوميات والشعري، أي أنه يستثمر رحلاته في أعماله الأدبية الشعرية. السؤال المطروح، هل يمكننا أن نعتبر بأن سعدي يوسف يكتب سيرته التي لم يؤرخ لها التخييل الرسمي؟
ـ كل عمل فني يأخذ جزءا من ذات الفنان ومن سيرته، هذا تحصيل حاصل. لكن، والله لا أدري، ليست لي أي ملاحظة أطرحها حول هذا الموضوع، فهذا شيء طبيعي. ولكن توجد نقطة معينة بالنسبة للغة، وهذا ليس جديدا، فمنذ هوميروس وامرؤ القيس الحال يسير على هذا المنوال، يعني؛ امرؤ القيس يتناول مفردات الطبيعة والحياة اليومية وأنا أيضا. المحيط في الشعر مهم جدا، أن تكون مخلصا لما حولك. هذا ما فعله القدامى. وحتى عندما نقارن على سبيل المثال بين أرثر رامبو وامرؤ القيس فيما يخص الرصد اليومي سنجد هذه العلاقة بينهما، لكن أن تبدأ بالمجرد لتكتب نصا فهذه بداية خاطئة وتائهة. عليك أن تبدأ بالملموس لتنتقل للمجرد وعندما تنتقل للمجرد لن يوصلك إلى الملموس إطلاقا.
ـ محمد شكري قامة إبداعية مغربية كبيرة. هل لك أن تحدثنا عن أي ذكرى معه خصوصا وأنك كتبت عن أماكن في طنجة كان يرتادها محمد شكري، وكأنك تجدد اللقاء به في روحانية وسط زخم صوره وذكرياته؟
ـ مع الأسف، لم تُتح لي الفرصة لأن ألتقي بمحمد شكري. كان هناك فرصة عندما جئت إلى الدار البيضاء في أول مهرجان لبيت الشعر في المغرب. كان لي صديق يريد أن يذهب في الليل من الدار البيضاء إلى طنجة بالسيارة، وعرض علي أن يأخذني معه لنلتقي بمحمد شكري. فقلت هذه فرصة لألتقي به وأتحدث معه، لكن لم أذهب في الليل، استشعرت في السفر بالليل مخاطرة والطريق طويل. مع الأسف، هكذا ضاع مني اللقاء، لم يكتب لي أن ألتقي بمحمد شكري، وإكراما لهذا اللقاء الضائع كتبت عنه في ديوان طنجة. لكنني قرأت كل أعماله لأعرفه أكثر عن قرب.