وقد استهل الدكتور الزاهي المحاضرة بتحديد الأسباب الكامنة وراء اشتغاله بالصورة والجسد معتبرا تواشجهما اللغوي قَدَرَه الفكري، إذ باشتغاله على الصورة يشتغل على الجسد، والعكس صحيح، بحيث أصبحت الصورة عنده رهينة بالجسم، والجسم غدا رهينا بالصورة، وهو تواشج أنطلوجي ووجودي سابق على اللغة، وكانت إشارة من الدكتور للعودة إلى منسي الكلام، لأن استعمالاتنا اللغوية كانت في الأصل مجازات، فأصل اللغات مقدس.
ففي تحديده لمفهوم الصورة، بسط المحاضر مجموعة من الأفكار وزوايا النظر لمقاربة الصورة، فهي (أي الصورة) اسم نوع، ولذلك يُدخِلُ فيها كل أجناس الصورة وجزيئاتها، كالصورة الفوتوغرافية والسينما، وهو لا ينظر إليها بشكل مستقل معزول، كما يرى بأن مفهوم الصورة يختلف من بلد لآخر حسب خصوصيته الثقافية ومُتخيّله التاريخي، ويرى بأن التركيز في دراسة الصورة ينبغي أن يكون على ما هو خيالي ومُتجاوز لما هو حسّي فقط، أي الاهتمام بالصورة الشعرية والصورة البلاغية بمفاهيمها الجديدة انطلاقا من كتابات رولان بارت عن بلاغة الصورة، ولذلك يصير من المشروع أن طرح جملة من الأسئلة مثل: هل نخاف الصورة الحسية؟ أم أننا نجهل طريقة التعامل معها؟ أم لأنها تمتلكنا ولا نستطيع امتلاكها؟ أم لأنها تتعامل مع حسنا لا فكرنا؟
كما تحدّث الدكتور الزاهي عن علاقة المغاربة بالصورة ووسمها بأنها علاقة اغتراب، ولكن ذلك لا يعني أن المغربي لم يعش فتنة الصورة وجاذبيتها، وإنما المفارقة تكمن في تحريم التصوير والافتتان به في نفس الوقت، وإذا التفتنا إلى التاريخ نجد أن الصور تغيب في الكتب والمخطوطات إلا في حالات قليلة معدودة، كوجودها في بعض الأواني، أو على شكل حكايات ذات طابع أسطوري، كقصة سيدنا علي وقصة آدم وحواء، غير أن اللافت للنظر هو أن التصوير كان مباحا للأغراض العلمية.
إن أولى التصاوير كانت نتيجة اللقاء بالآخر، وهو ما يجعل ثقافة الصورة نتاج عملية مثاقفة بالأساس، بحيث أن أول من صُوِّرَ كان ابن بطوطة والسفراء وبعض السلاطين، وهو ما يفسر أن الصورة (الفوتوغرافية) لم تنتقل إلى المغرب إلا مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بحيث أن السلطان المولى عبد العزيز كان أول مصور في المغرب، فقد كان مولعا بالتقنيات المستحدثة بشكل عام.
وهكذا تحوّل “الإنكار” الذي كان سائدا إزاء ثقافة الصورة إلى عشق وافتتان، وإن كانت الصورة الفوتوغرافية لم تعتبر فنّا إلا في السبعينيات.
وبإدراك المغاربة لأهمية الصورة في تخليد الأثر، بدأ مفهوم البطاقة البريدية، وهكذا شكلت الصورة عنصرا حاسما ومؤشرا على دخول المغاربة الحداثة من بابها الواسع، بعد تجربة الاكتشاف والدهشة.
وقد ذهب الدكتور فريد الزاهي أن التركيز على اللغوي يُعَدُّ نوعا من الإقصاء لأجزاء أخرى من الثقافة، فاللغة وحدها ليست إلا محمولا واحدا من محمولات الثقافة، لأن نصف العوائد اليومية بصرية أساسا وليست لغوية.
وتتمة للنبش في تاريخ التصوير والصورة بالمغرب، تحدّث المحاضر عن بعض الفنانين التشكليين المغاربة الأوائل، كمحمد بن علي الرباطي (اشتغل طباخا عند بعض الإنجليزيين)، الذي نظّم معرضين للصورة: الأول سنة 1916 في لندن، والثاني في مارسيليا.
فلماذا انتظرنا أربعين سنةً للحديث عن الصورة في الثقافة المغربية؟ يتساءل المُحاضر، لينبّه إلى ثغرة كبيرة بمناهجنا التعليمية، وهي المتعلّقة بإغفال دراسة الصورة والتواصل البصري.
إن ثقافة الصورة هي من يقف خلف ترسيخ مفهوم الفردية، حيث تكرّس الصورة خصوصية الذات وتفرّدها، وهي تشكل أيضا دليلا ماديا على الوجود الفردي، ولذلك صارت سمة البطاقة الوطنية مثلا، بحيث تعدّ عنوانا للهوية الشخصية.
وبعد العرض، تدخل عدد من الحاضرين بأسئلة أثارت نقاشا غنيا، وتركزت في مجملها على فعالية الصورة في عالم اليوم، وحساسيتها الإعلامية والسياسية، ليطال الحديث هموم الاشتغال السينمائي بالمغرب وما يعانيه مجال مهن الصورة عموما من إشكاليات بعضها ذو طابع ثقافي سوسيولوجي وتاريخي، والآخر ذو طابع سياسي مرتبط بالسيرورة الديمقراطية ومفهومي الحرية والمواطنة.
* عبد القادر الدحمني