الثقافة بين الحياد والإنحياز

hamid el mesbahi

حميد المصباحي
  الثقافة بما هي معارف وخبرات,تشكل صلب الحضارة الإنسانية، و لأن الناس لا يتشابهون حد التطابق وقد وجدت ثقافات متنوعة ومختلفة باختلاف تاريخ الحضارات، فكانت منها الإنتاجات الفكرية والأدبية والفنية، ليظهر النقد كفكر مواكب للإبداع، فتم اكتشاف معيار الفنية والعمق الفكري، فيما يعبر به الإنسان عن وجوده، ما يحفظ به وحدته، ويضمن استمراريته وتوازنه النفسي والروحي. ومع ظهور الصراعات البشرية وجدت الثقافة نفسها في خضم المواجهات بين الحضارات أولا، ثم بين الفئات الإجتماعية للحضارة الواحدة حيث اختلط السياسي والإيديولوجي بالفني والثقافي العام، وكانت هذه حالة مرت منها كل المجتمعات، لكن بمراحل متفاوتة، تاريخيا، لكنها أفرزت توجهين، واحد حاول البحث عن حيادية معرفية وفنية محايدة و آخر، اعتبر أن للثقافة فعلا في التاريخ، و ليست مجرد إبهاج، أو نسيان للتعاسة العامة أو الخاصة، ولا مجرد مهرب مما تتطلبه السياسة من جرأة وقدرة على بذل الجهد وحتى الحرية دفاعا عن الحق والعدالة المنشودين. لكن من الملاحظ أن هناك مجتمعات قطعت مراحل جد متقدمة، جوابا عن هذا الإشكال، وأخرى لازالت تعيد تكرار المشكل بدون جرأة على حسمه. فكيف يحدث ذلك؟ و هل تأخر العالم العربي عن خوض غمار الإجابة عن الأسئلة الحارقة أم أن تعددها لم يسمح بالحسم فيها؟ وما هي ملابسات هذا التخلف و التأخر في الحسم؟؟

1- الحسم الأروبي
 عاشت أروبا مرحلة الإنحياز لقضايا المجتمع، إذ انخرط في ذلك المثقفون و العلماء و الفنانون، و دفعوا أثمنة باهضة دفاعا عن الحرية و الفردانية و الحق الشخصي في التدين، فاحتدت المعارك السياسية ونتجت عنها ثورات،عصفت بالإرث التقليدي لأروبا في مراحل متتالية ومتباعدة حسب درجة التطور الإقتصادي وحتى الإيديولوجي للدول المشكلة للقارة الأروبية. ومفاد ذلك أن فكرة الإلتزام نفسها تبلورت بأروبا ودافع عنها الفكر الغربي لحظة مواجهته للتخلف وسيطرة المطلق الديني والسياسي والعرقي أيضان وعندما تحققت غايات التمدن كان على الثقافة الأروبية أن تنتقل لفكر مغاير متميز عن الإنحياز الإيديولوجي والسياسي.

2- الثقافة الثقافية
 هي فكرة نزع الإيديولوجي عن المعرفة وعدم استخدامه خصوصا فنيا في المواجهات السياسية حفظا له وضمانا لاتساعه وإقبال الكل عليه استهلاكا واطلاعا، لكن هذه الحيادية ما كانت لتتحقق بدون الإنجازات التي وصلت إليها المجتمعات الغربية الأروبية بالخصوص، حيث حققت العقلانية توازنات مهمة في العدالة و الحرية والديمقراطية، بحيث تقلصت التعاسات وتراجعت الإختلالات الإقتصادية والإجتماعية، طبعا بدون نهاية للمشاكل التي يعانيها الإنسان الأروبي، لكن حكوماته تملكت القدرة، على مواجهة البؤس بدل إخفائه، أو الدعوة للقبول به، بل فرض التسليم به كحقيقة مطلقة تنضاف للإطلاقات العقدية والإيديولوجية والعرقية وأحيانا حتى الوطنية كما تفهمها النظم الحاكمة في العالم العربي و الإسلامي.

3- الثقافة الحضارية
 ومعناها الوصول لفرض ثقافة خاصة باعتبارها عصارة للفكر الإنساني، أي الممثلة له إنسانيا وبصيغة أخرى العولمة بما هي قبول بالآخر والذوبان فيه إنسانيا أو القبول بدرجة الإختلاف التي يريدها هو، وفق فلسفته القائمة على تقديس الفردانية، لضرب كل نزوعات التضامن التي لازالت تحتاجها الكثير من المجتمعات غير الأروبية، بحيث تمتد هذه الإختيارات للثقافة نفسها والفنون التي عليها أن تتمثل القيم الفنية الأروبية أو تعبر عن اختلافيتها الفلكلورية، كتعبير عن بدائية مبهرة للغرب أو معبرة عن المراحل التاريخية التي عاشها ويريد تذكير العالم بها، كماض له، تخلص منه وتعيشه مجتمعات أخرى معاصرة له، لكنها متخلفة عنه، وعليها أن تقبل برياديته الثقافية والفنية، ولن يتسنى لها ذلك بدون الدفاع عن حيادية الثقافة والفنون في العالم العربي، الذي يحتاج لمثقفين فاعلين، وليس محايدين، بادعاء عدم حاجة الثقافات والفنون لغايات مسبقا لأن ذلك يمس بفعالية الفن والمعرفة التي عليها أن تستقل عن السياسة خوفا من السياسيين، بدون أن تدرك هذه الجماعات أن الإرتباط بالغايات ليس معناه الخضوع للساسة، فالسياسة ليست حكرا عليهم.

خلاصات
 عالمنا العربي في حاجة لمثقفين يصارعون لنشر ما به يعتبرون أنفسهم نخبة، وإلا فإن عالمهم سوف يزداد ضيقا، بنفور الناس منهم، وتقلص القراء، مما يشجع السلطة السياسة على المزيد من التنكر لهم، والتجاهل لمشاريعهم الثقافية التي لا يمكن عزلها بشكل نهائي عما هو سياسي، وإن أمكن تمييزها عن مجمل الأنشطة الحزبية، وما تمارسه الدولة من اختيارت زاعمة أنها تصب في خدمة الثقافة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *