إلياس فركوح *
عملت جائزة “بوكر” في نسختها العربية، ومنذ دورتها الأولى (2008)، على كشف قَدْرٍ من “مخبوءات” الحال الثقافي العربي التي ما كانت لتظهر لولاها، وعلى نحو نعاينه في العَلَن، أو في المداولات الدائرة “خارج التسجيل”، مما اضطر المراقب إلى مراجعة الأسس الأخلاقية والمعرفية التي نهض عليها عديد الأسماء “اللامعة”، والجهات الحاملة لـ”رسالة النهضة والتنوير”!
كشفت الجائزة عن نقص التأني، غالباً، في اختيار أعضاء اللجان لتوفير التجانس والسوية في الخبرة في ما بينهم، والافتقار للموضوعية العارفة بدقة. والتكاسل في القراءات المتعمقة المختصّة، أو العجز عنها. وتنحية النزاهة عند إصدار الفتاوى على الأحكام أو المحكمين، وبؤس الانقلاب على مواقف سابقة حين تستوجب الأهواء الذاتية ذلك.
كلّ هذا حدث، ويحدث، بلا إدراك ضرورة المراجعة وإعادة النظر. وأجدني أشدد على أن تلك المخبوءات لا تنحصر في الجهة المسؤولة عن منحها؛ بل تشمل جميع الأطراف المنخرطة فيها:
* لجان التحكيم كأفراد لا يتساوون، في الخبرة المتخصصة أو الاطلاع الكافي على مستجدات الرواية كجنس أدبي يتحوّل باضطراد، عند الفرز وإصدار الأحكام النقدية/ الفنية، ما يؤدي إلى تفاوت يشوب مستوى النتائج في كلّ دورة. آخذين بالاعتبار أنَّ ذلك كلّه خاضع للنسبية.
* الناشرون كأفراد هم أيضاً؛ إذ لم تصل دور النشر العربية، بعد، إلى تجسيد مفهوم “المؤسسة ” المترفعة عن الأهواء الشخصية في ترشيحاتها (في أسوأ الأحوال)، أو الاجتهاد الذاتي المحض (في المعقول منها)، أو اللجوء أحياناً لاستشارة بعض النقّاد (في أفضلها).
وهذا بدوره يفسح المجال لعدم الإنصاف، وبالتالي للريبة حيال المعايير في اختيارات دور النشر.
* الروائيون أنفسهم كأفراد؛ حيث بتنا نرى اندفاعاً أشبه بالإعصار في إصدار الروايات كلّ سنة تقريباً، من جهة بعض أصحاب التجارب السابقة أو جهة الجُدد من كتّابها. ومع أنّ أحد أهداف الجائزة “تنشيط” الرواية ورفدها بنصوص تُغنيها وتحفِّز على التنويع عليها، وتوسعة جمهور قُرّائها، إلّا أنّ ما حصدناه (عموماً) كان ارتفاعاً في الكم العددي ومراوحة في الكيف الكتابي.. إلّا استثناءات محدودة. كما أن اعتماد النسبة الأعلى من النصوص الفائزة في دورات سابقة على “الموضوعات” ذات البُعد الاجتماعي- السياسي- الراهني على نحوٍ مباشر، أدّى إلى ما يشبه “البوصلة” لدى فئة واسعة من الروائيين يهتدون بها.
تلك النقاط تكثيف لِما كشفت عنه جائزة ” بوكر” من مآخذ لم يبرأ منها أيٌّ من الأطراف المنخرطة في تفاصيلها: أشخاصاً، وإعلاماً، وهيئات. نقاط خالفتها استثناءات قليلة. وأسمح لنفسي بإيراد بعض المعاينات تدليلاً على ما سبق:
في غير دورة أفصح بعض أعضاء لجان التحكيم عن عدم توفر الوقت الكافي لقراءة متعمقة للنصوص، حتى لتلك المفروزة المشكِّلة للقائمة الطويلة. وفي غير دورة كان الشاغل للجان هو الموضوع اللافت لا التميّز الفني للنصوص، إنْ قصداً أو انسياقاً. وغالباً ما كانت الأسماء الأجنبية داخل اللجان لا تتوافر إلّا على اطلاع متواضع ومحدود على الأدب العربي، وليست ذات تخصص بالرواية كجنس أدبي بالعموم.
وفي الجانب الآخر، ثمة شخصيات اتخذت موقفاً متشككاً بمبدأ الجائزة رافضة لها، لكنها ما لبثت وأن استقرّت داخل إحدى لِجان تحكيمها! وعديدة هي الأمثلة على خلل أخلاقي ومِهني في العلاقة بين بعض “الناشرين” وفئة من “الروائيين”، من خلال مقايضة تعتمد ترشيح نصوص الأخيرين مقابل مالاً إضافياً يُدفع لأولئك الناشرين! وهذا لا يمكن أن يُقرأ إلّا بوصفه فساد يصيب شخص هذا الروائي، وذات ذاك الناشر!
وأخيراً: هذا اجتهاد مقصده النقد الحريص على الجائزة، لا النقض، وليس من أمرٍ يتحلّى بالكمال.
* كاتب وروائي أردني