قراءتي في رواية “الذاكرة المنسية” للأديبة الزهرة رميج

قراءتي في رواية “الذاكرة المنسية” للأديبة و الروائية المغربية الزهرة رميج،
تحت عنوان: كتابة السيرة الذاتية بين استحضار الذاكرة بتقنيات المشابهة la vraisemblance و تأطير العوالم المتخيلة بقوة اللغة و جمالية الأساليب (جمالية قراءة المكان/ الفضاء الروائي نموذجا).

ذ. بوزيان موساوي.. وجدة/ المغرب.

تمهيد:

أقترح من باب التمهيد أن نقرأ هذا التصريح للكاتبة الزهرة رميج في توطئة روايتها هذه “الذاكرة المنسية”(ص.8):
“استغربت أكثر، لكون حياتي بسيطة للغاية. فطفولتي التي يرغب في التركيز عليها، كانت طفولة عادية ليست فيها أي إثارة، و مراهقتي مرت بسلام، و لم تعرف لا هزات عنيفة، و لا مغامرات خطيرة، و لا تضحيات جساما. كان طريقي مرسوما منذ البداية، و كانت حياتي تتدفق تدفق الماء في النهر لا يحيد عن مجراه أبدا… هكذا كنت أتصور حياتي، و بناء على هذا التصور، لم أوافق على فكرة إنجاز فيلم وثائقي، لأنه في اعتقادي، لن يضيف إلى القارئ المهتم بتجربتي الإبداعية شيئا ذا قيمة.”
هو التصريح الذي جعلني أتساءل:
ما أهمية أن نقرأ لكاتب(ة) يحكي لنا سيرته الذاتية، إن لم يكن في ما تم وصفه و سرده إضافة؟… إضافة معرفية، و إضافة فنية.. خصوصا أننا أصبحنا نعيش في زمن عالم براغماتي لا يؤمن إلا بما هو نفعي هنا الآن، و لو كان الاستنفاع منه معنويا لاستخلاص الدروس و العبر، أو لمجرد المتعة.
جديد إبداع الزهرة رميج من خلال روايتها قيد القراءة هنا “الذاكرة المنسية”، إضافات جديدة في تقنية كتابة السيرة الذاتية، حاملة لمؤشرات جديدة واعدة و محمسة مضمونا و تقنيا و فنيا من حيث القضايا والإشكالات المطروحة، مؤطرة في بعديها الزماني و المكاني.. نقتصر لضيق الحيز و المجال على رافعة أساسية :
ـ تصورها “المتفرد؟” و الجريء للمكان/ الفضاء الروائي بين المعلوم و الموهوم، بين المشابهة و الخيال.

1 ـ كتابة السيرة الذاتية و استحضار الذاكرة بتقنيات “المشابهة” La vraisemblance:
ـ متى تصبح الذاكرة رهينة مكان؟
منذ البدء،أول كلمة تفتتح الرواية هي “المكان”، و كأنه “بطل الرواية”، نقرأ: “المكان الذي يوجد فيه البيت الذي ترعرعت فيه..” (ص. 15)… “انهمرت علي الذكريات دفعة واحدة، انهمار شلال عظيم.. استيقظ المكان فجأة، من سباته العميق” (ص. 25 ).
الذاكرة إذن رهينة مكان، لأن المكان، في روايتنا هنا، يكتسب أهميته القصوى، لا لأنه أحد عناصرها الفنية ـ كما تنبه لذلك الباحث احمد زياد محبك في سياق مشابه ـ ، أو لأنه المكان الذي تجرى فيه الأحداث، و تتحرك خلاله الشخصيات فحسب، بل لأنه يتحول في هذه السيرة الذاتية إلى فضاء يحتوي كل العناصر الروائية.. وصفا، و سردا، و حوارا، و أحداثا، و حبكة.. و حاملا لرؤية البطلة، و لمنظور المؤلفة.. هي ذاكرة “موشومة” بالفضاء الروائي/ المكان: (” المغرب”، الموطن الجغرافي لقبيلة “بني يخلف”، ضواحي مدينة “خريبكة”، مسقط الرأس ” البراج” ، البيت الذي قضت فيه البطلة طفولتها “لبّيرات”، مدينة “وادي زم”، و مدينة “الدار البيضاء” …”).
هي أسماء أمكنة حقيقية وموثقة جغرافيا و تاريخيا إما لأنها معروفة، أو تم التقصي عن حقيقتها كما “البَيرات” و “السد”/”البراج” و موطن قبيلة “بني يخلف”… ” و لعل تسمية المكان ـ كما كتب الباحث أحمد زياد محبك ـ هي أول السبل إلى بناء المكان، فتسمية المكان في الرواية تحيل القارئ على المكان الذي يحمل الاسم نفسه في الواقع، و إن كان المكان في الرواية ليس هو المكان نفسه في الواقع، و من هنا تنشأ المفارقة، لأن التسمية محض وسيلة أولية باهتة، لا يمكن أن تقوم وحدها ببناء المكان الروائي..”.
و بما أن كاتبة السيرة الذاتية تعتمد في سردها للأحداث على الذاكرة، و الذاكرة معرضة للنسيان و الخلط:
“و رغم أن ميلادي كان هناك، إلا أن ذاكرتي لا تحتفظ بأي ذكريات تتعلق به. (ص. 29)”…

ـ العودة للمكان، أم البحث عن الزمن المفقود؟
هي عودة تشبه “الحج” إلى مكان مقدس، نقرأ:
“سنة 2015: عندما رافقني في رحلة “حج” إلى كل أماكن الطفولة..” (ص. 31 )… لكن التلاقي، قابلته خيبة أمل،
نقرأ: “خرجت من بيتنا القديم منكسرة النفس، شديدة الحزن. أين هذا البيت من ذلك البيت الذي يسكنني؟ أين فضاءاته الكئيبة هذه من تلك الفضاءات الآسرة؟ أين “طاحونة الماء” و الصهريج الذي تصب فيه؟أين تلك المياه المتدفقة، و تلك البرك المعشوشبة؟ (…) بل أين هي البادية التي كنت احن إليها؟”(ص. 28 ).
فقرة معبرة على أكثر من صعيد، هي رحلة لتفقد مكان حميمي يؤرخ لطفولة، و لحياة، و لنمط عيش، و لعادات و تقاليد و أعراف، و لوطن بين زمنين: زمن الاستعمار الفرنسي، و زمن ما بعد الاستقلال، ولأحلام… و كأننا نقرأ من جديد رواية “البحث عن الزمن المفقود” (A la recherche du temps perdu) لمارسيل بروست، عبر ومضات (Réminiscences) “ذاكرة موشومة” (La Mémoire tatoué ) كما قرأناها لعبد الكبير الخطيبي..
هو الحنين.. هو البكاء على الأطلال، لكن ليس على معمار و أشياء في حد ذاتها.. هو الحنين إلى الزمن “الجميل”، نقرأ: ” مرة أخرى، انفجرت بالبكاء !أدركت أني لا أبكي الطين و الحجر، و إنما من أثثه من البشر. أبكي عوالم و حيوات سادت هذا الفضاء ذات زمن، ثم بدت، و كأنها لم تكن !…” (ص. 28 ).
ـ ذاكرة مكان، أم البحث عن الينابيع، و الأصول، و الهوية؟
نقرأ:” و إذا كانت قبيلة بين يخلف هي القبيلة التي أنتمي إليها، و ولدت بها حسب ما هو متداول، إلا أنها غير واردة في سجل الحالة المدنية (…). و هذا ما دفعني للبحث عنها و أنا أكتب هذه السيرة (…). و سواء أكان أصل القبيلة عربيا أو أمازيغيا، فإنها في جميع الأحوال، تعكس حقيقة المجتمع المغربي الذي انصهر فيه هذان المكونان من قرون طويلة..” (ص. 17 و 18 ).
قد يعدد هذا الإفشاء الخليق برواية الزهرة رميج تقنية متهالكة من فرط ما لاكها الأدب المغربي المعاصر (المكتوب منه بالفرنسية على الخصوص، كما رواية “الماضي البسيط” (Le passé simple ) لإدريس الشرايبي، و “الذاكرة الموشومة” (La Mémoire tatoué ) لعبد الكبير الخطيبي . و غيرهما.. غير أنه يعكس هنا، في هذه الرواية، موقف الكاتبة من مكونات الشعب المغربي: تعددية أعراق في إطار وطن موحد: المغرب، و موقفها من هشاشة أماكن تحاول الصمود، و تعيد ترميم نفسها، طوبة فوق طوبة، وذكرى بعد ذكرى، إثر دمار محيق بفعل التعرية و إهمال الانسان..
كما تسترجع بالذاكرة الحمولة الثقافية و الحضارية لمكان (البيت، القرية، المدينة، موطن قبيلة، وطن)، من خلال عاداته و تقاليده و أعرافه، و معتقداته، نقرأ على سبيل المثال لا الحصر تذكير و مواقف:
ـ الموقف الأول من “قص الشعر” و “العين”، نقرأ:
“لم أصدق يوما، علاقة قص الشعر بالموت. لا شك أن صورة المرأة الفرنسية التي تحدثت عنها كان عاملا مهما في عدم تصديقي، إذ لو كان الأمر كذلك، لمات كل أبناء الفرنسيات، هكذا كنت أفكر. و لهذه الصورة أيضا دور، في عدم تصديقي للعين. فقد كان الفرنسيون يبدون لي بما يتميزون به من جمال و صحة، و حياة رغدة، أكثر عرضة للعين ممن يخشونها من الناس البسطاء و الفقراء، و يقاومونها بوضع حلي العقارب السوداء في معاصم الرضع، أو الأحجية الواقية في أعناق الكبار و الصغار، أو تعليق صفائح الخيل على مداخل البيوت، أو رسم اليد بالحناء على الأبواب…” (ص. 45)..
ـ الموقف الثاني، على سبيل المثال كذلك، حول “الزواج”، نقرأ:
” أذكر أن أخي هذا، مازحني ذات يوم، و هو يشير إلى دجاجة كبيرة كانت تتقدم كتاكيتها الصغار، متمايلة ببطء: “ستتزوجين، و ستنجبين إثني عشر طفلا، و سيتضخم جسدك، فتصيرين سمينة مثل هذه الدجاجة !” (…). كنت منذ الطفولة أرفض الزواج المبكر، و إنجاب عدد كبير من الأطفال. (…). أعتقد اليوم، أن تمردي على واقع المراة في ذلك الوقت المبكر، يعود إلى الصورة النموذجية في الكتب الفرنسية… ” (ص. 40 ).
ـ ما علاقة المكان بتشكل شخصيات أبطال الرواية؟

” إن صورة البطل في الرواية ـ كتب الباحث بن علي لونيس ـ هي وليدة سياقات اجتماعية و سياسية و ثقافية، و ليست وليدة مزاج فني أو خيار تقني بحت يلجأ إليه الروائي لتأثيث عالمه السردي. كما أن البطل ليس مجرد بورتريه يرسمه الروائي يضيفه إلى متحف بورتريهات الشخصيات الروائية. (…) فالبطل ليس اسما فقط، بل هو كذلك وظيفة. (…). و للكاتب الزهرة رميج رأي في الموضوع من خلال روايتها قيد القراءة هنا “الذاكرة المنسية”، نقرأ في توطئة الرواية ص. 13 :
” لقد تأكدت لي صحة النظرية العلمية التي تقول بأن ملامح شخصية الانسان تتشكل في طفولته المبكرة نتيجة تفاعله مع محيطه..”
و نقرأ ص. 22: ” لم يكن حنيني يقتصر على بيتنا فقط، و إنما يشمل أيضا، تلك الفضاءات الواسعة المحيطة به..”
و نقرأ. ص. 33 :”أعتقد أن أول مكان تتفتح عليه أعيننا بعد خروجنا من الرحم، و ندمن رؤيته خلال سنوات عمرنا الأولى يظل راسخا في لاوعينا، لقد ظللت أحمل هذا المكان في أعماقي دون أن أدري..”
ويستنتج ليسكور في هذا السياق : “الفنان لا يبتدع أسلوب حياته، بل يعيش بالأسلوب الذي يبدِع به […] إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانًا لامباليًا، ذا أبعاد هندسية وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكل ما في الخيال من تحيز. إننا ننجذب نحوه لأنه يكثف الوجود في حدود تتسم بالحماية […] إن مكان الكراهية والصراع لا يمكن دراسته إلا في سياق الموضوعات الملتهبة انفعاليًا والصور الكابوسية. حين نتذكر البيوت والحجرات فإننا نتعلم أن نسكن داخل أنفسنا.”
و نستنتج كما فعل الباحثان مصطفى الضبع، و حسن بحراوي “إن الروائي حين يعمد إلى إسقاط مجموعة من الصفات الطوبوغرافية على الفضاء أو المكان الروائي (…)، إنما يفعل ذلك بغية البرهنة على العلاقة بين المكان و الشخصية في النص الروائي. كما أن اختلاف هذه الصفات و تنوعها من مكان لآخر في الفضاء الروائي، يمكن أن يعكس لنا الفروق الاجتماعية و النفسية و الايديولوجية لدى شخوص الرواية…”.

2 ـ ذاكرة مكان و الخيال الروائي:

و بما أن كاتبة السيرة الذاتية تعتمد في سردها للأحداث على الذاكرة، و الذاكرة معرضة للنسيان و الخلط:
(“و رغم أن ميلادي كان هناك، إلا أن ذاكرتي لا تحتفظ بأي ذكريات تتعلق به. (ص. 29)”)… فغالبا ما يتم إما انتقاء الأمكنة (تفضيلها للقرية على المدينة)، أو تأثيثها باستعارة مكونات خارجية (الصفصافة)، أو إطلاق العنان لخيال مؤلفة.. بما أن السيرة الذاتية عمل أدبي فني و ليست وثيقة تاريخية، و لا ما يطلق عليه “فن الاعتراف”، فكاتبتها تطلق لخيالها العنان لتفيدنا معرفيا من جهة بتحري الصدق و الصراحة و المصداقية، اعتمادا على الذاكرة، أو الشهود، أو المراجع، و لتجعلنا من جهة أخرى نستمتع كقراء داخل فضاء قالب فني خاص برواية السيرة الذاتية يتعارض فيه الخيال و الحقيقة، و الذاكرة و الحلم، و المعلوم و الموهوم، والمعرفي الوثائقي و الجمالي الفني، بتقنيات أهمها المشابهة، نقرأ:
“أعتقد أن تصويري للبحيرة نابع من رؤيتي لبحيرة وادي زم، و انبهاري بجمالها خاصة، و أني استعرت منها تلك الصفصافة الباكية التي كانت تتوسطها، و كانت أغصانها المتدلية تثير خيالي، و التي لا وجود لها في السد.. (ص. 33 .)”.. لهذه التقنية “وظيفة إيهامية” ـ كما سماها الباحث برهان الخطيب ـ ، و هي من أهم الوظائف و أخطرها، حيث تقاس درجة الابداع و الخلق من خلال مدى نجاح الروائي في إقناع المتلقي بواقعية ما يوصف له فيشعر القارئ أنه يعيش في عالم الواقع لا عالم الخيال و يخلق انطباعا بالحقيقة أو تأثيرا بالواقع.. و هذا الايهام هو ما يطلق عليه بعض النقاد مصطلح ” المشابهة” la vraisemblance. و هو ما انتبهت له الكاتبة بصوت الأنا الساردة و الواصفة و المحللة، لما وظفت مصطلح “اللاوعي” و “الخيال” بدل “الإيهام” أو “المشابهة…
نقرأ. ص. 34 : “إن اللاوعي هو الخزان الأعظم الذي ينهل منه المبدع، و هو الذي يوسع خياله باستمرار..”.
و كأن اللاوعي مرادف للحلم، نقرأ، (ص23 ):
“عندما كنت أتنقل من مدينة إلى أخرى، لاستكمال تعليمي الثانوي و الجامعي، و أشتاق لأهلي، لا أجد سوى الحلم ليطفئ لواعج الشوق. لكن الغريب أن الأحلام كانت دوما، تصر على اختيار بيت القرية و فضاءاته مسرحا لها..”.
الحلم أو الخيال عند الزهرة رميج ـ على لسان الذات الساردة الأنا ـ يمتزج بومضات الذاكرة، يصبح وصفا، يصبح سردا، يصبح كتابة.. و هذه الكتابة تنفخ الحياة في الأمكنة التي واراها النسيان، لتبعث بها للحياة ـ كما الفينيق الذي يبعث من رماد ـ، ليس لأهمية الأمكنة في حد ذاتها و لذاتها، بل حتى لا تموت ذكرى كل الكائنات التي عاشت في هذه الفاضاءات حتى أصبحت جزءا من جغرافيتها و تاريخها، نقرأ:
“… و رحت أتأمل فضاءاته بدقة أكبر، حتى طفت مجددا، ذكريات الطفولة إلى السطح، فعادت إليه الحياة كمن كان في غيبوبة خمسين عاما، فاستيقظ فجأة…” (ص. 28 ).. لم يستيقظ المكان، بل استيقظ الوعي به ـ هي ليست قصة أهل الكهف تعيد نفسها ـ، بل هي صرخة رسالتها إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ليس من مكونات الماضي أمكنة كانت أو بشرا، فليست الرواية تحيي الموتى و الأنقاض، و إنما لما قد يصلح الحاضر، و يستمر لأجل مستقبل أفضل…
كتب الباحثة آسية البوعلي من سلطنة عمان في نفس السياق:
“إن الصورة الفنية تتعدى حدود الرؤية للمكان بعناصره الفيزيائية إلى المشاركة الوجدانية، و هو ما يؤكد لنا أن الصورة الفنية لا تثيرفي ذهن المتلقي صورا بصرية فحسب، بل تثير صورا لها صلة بكل الاحساسات الممكنة التي يتكون بها نسيج الإدراك الإنساني ذاته… و هنا تكمن عبقرية اللغة الروائية حيث تتمكن من إعطاء أبعاد حسية لما لا وجود له إلا بالوعي و فيه، و في إضفاء صفة الواقعية على ما هو تصوري محض…”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *