“تسعى”الحجر والبركة” إلى تثبيت تصور زقاقي للرواية؛ وينبغي فهم البعد الاستعاري للزقاق هنا بمعناه الهندسي الشكلي، لا بمعناه المعجمي”
يعد الأكاديمي والأديب المغربي عبد الرحيم جيران بوصفه باحثا رصينا في خريطة النقد العربي سواء داخل الجامعة أم خارجها، وصاحب “نظرية في السرد” أطلق عليها “المنهج التجديلي التضافري”، يزاوج بين الكتابة الروائية والقصصية والشعرية، ونقد النقد. صدر له في الدراسات الأدبية: ” في النظرية السردية” عن أفريقيا الشرق (2006)، و”إدانة الأدب” عن النجاح الجديدة (2008)، و”علبة السرد: النظرية السردية من التقليد إلى التأسيس” و”سراب النظرية” عن دار الكتاب الجديد المتحدة (2013)، والنص الأدبي- لعبة المرايا، الدار المغربية العربية (2017)، و” الذاكرة في الحكي الروائي” و”لما تكلم الحكي” (2019) أما في الرواية: “عصا البلياردو” عن دار أفريقيا الشرق (2011)، و”كرة الثلج” عن دار الآداب (2013)، وفي القصة القصيرة “ليل غرناطة” عن دار الأمان (2013)، و”رياض الخاسرين” عن دار الفاصلة، 2018، وفي الشعر: “سيرة شرفة” عن دار النهضة العربية (2016).
◊أجرى الحوار حسين السيد
س- -بداية، ماهي نقطة التحول التي أسست فعلا لبدء مسيرتك الأدبية؟
ج- البدايات تقلق سليمان الثنائي في رواية “الحجر والبركة”، ربما لأن كل بداية هي بداية لشيء آخر ونهاية له في الآن نفسه، ولا يختلف الأمر بالنسبة إلي أنا أيضا، ما أدركه جيدا في هذا الصدد أنني كنت مهووسا في طفولتي بالرغبة في صناعة الأشياء وابتكارها، وبخاصة اللُّعَب، لكن هذا الهوس لم يجد ما يجعله متحقِّقا في ما هو مادي، أو ربما جاء تعلم اللغة ليتيح لي إمكانا آخر للعب والابتكار، فكان أن حلّ محل الهوس الأول. وقد أتاحت لي مطالعتي الأولى ذلك على نحو لا يقل هوسا، بما سمحت لي من انغماس في عالم التخيل. ولعل لاطلاع على ديوان “أغاني الحياة” لأبي القاسم، وعلى قصيدة لفدوى طوقان، لم أعد أتذكر اسمها، كان له أكبر الأثر في سعيي إلى الابتكار بوساطة اللغة، فكانت بدايتي الشعرية من هنا.
– ماهي قراءتك للمشهد الثقافي والحركة الأدبية اليوم في المغرب?
ج- المشهد الثقافي بالمغرب متحرك ومتعدد المشارب، في الشعر والقصة والرواية والمسرح، ويعرف اضطرابا كما هو الحال في العالم العربي في حركته هذه نتيجة أمور ثلاثة: أ- استشراء إتقان استخدام الإعلام، وتحكم العلاقات في صناعة أسماء غير جديرة بأن تكون عنوانا للنقد والإبداع المغربيين؛ وللأسف هذه الأسماء هي التي تُسوَّق اليوم في العالم العربي؛ ب- انعدام الناشر الحرفي الذي سمح للتجار بالتحكم في عملية النشر من طريق أخذ ثمن مسبق على ما ينشرون. وقد أتاح صنيع من هذا القبيل الفرصة للرداءة لكي تنتشر؛ ج- ما أتاحته وسائل التواصل الاجتماعي من جراءة غير محسوبة ورعناء؛ حيث صار الإبداع في متناول عديمي الموهبة وفاقدي القدرة عليه، فتساوى المُجيد مع غيره، والعالم مع الجاهل. واقع من هذا القبيل يشوش على الفعل الثقافي الرصين، ويربك مسيره.
س- فازت روايتك “الحجر والبركة” مؤخراً بجائزة المغرب في مجال الرواية حدثنا عنها
ج- ينبغي أن أذكر في البداية أن النسخة المنشورة ليست هي النسخة الأصلية؛ فهذه تتكون من 800 صفحة. وما كان لي أن ّأقلصها لو أن دور النشر قبلت نشرها بالحجم المذكور. وقد تطلب مني عمل من هذا القبيل إعادة صياغة الرواية بما يحافظ على روحها. وتسعى الرواية إلى معالجة موضوعة محددَّةَ تتمثّل في الانفصام التاريخيّ، لا النفسيّ، الذي يكاد يكُون سمَة مكوِّنة للشخصية العربيّة بعامّة والمغربيّة بخاصّة؛ وقد شُخِّصت هذه الموضوعة بوساطة حبكة عمادها شخصية “سليمان الذي عذَّبه أن يكُون منشطرًا إلى نصفين غير مُتهادنين: قروسطيّ وحداثيّ، واقعيّ ومثاليّ. وقد سعت الرواية إلى أن تُمثِّل موضوعتها هذه من خلال بناء جماليّ يستجيب لمقتضياتها؛ حيث اتّخذ السيرة الذاتيّة شكلا لها، لكنّ هذا الشكل كان بدورة موزَّعًا بين تشخيص الحدث والشكّ فيه، وعدم الاطمئنان للذاكرة؛ هذا فضلًا عن امتداد الانشطار إلى بنية ضمير السارد الذي ظلّ طيلة عملية السرد يتراوح بين ضمير المتكلِّم وضمير المخاطب، وامتداده إلى اسم الشخصية نفسه (سليمان الثنائيّ)؛ بل السخرية من الاسم نفسه؛ إذ يُرى إليه من خلال تقسيم لفظه إلى شطرين: لفظ فرنسيّ (الشمس soleil) ولفظ إنجليزيّ (الرجل (man.
س- شخصيات الرواية “سليمان”، صليحة، والجد وحكاياته وذكرياته وغيرها كم اقتربت من الواقع؟
ج- لا أظن أن مهمة الروائي كامنة في إعادة إنتاج الواقع، لا أحد يستطيع هذا، حتى الكاميرا نفسها تخفق في هذا؛ لأن الواقع يهب نفسه مجزءا في هيئة شتات، ومهمة الروائي الأصيلة ماثلة في إنتاج واقع جديد ممكن من خلال تحبيك بمكنته الإمساك بالكل الذي يحركه، ويفتح حركة الزمان على التضافر بين ما جرى وما يمكن أن يجري في المستقبل.. الشخصيات التي تحدثت عنها ليست سوى مجرد حكايات يرى من خلالها سليمان حكايته غير المكتملة وغير المفهومة؛ ومن ثمة فالشخصيات لا تمثل الواقع في حرفيته، بقدر ما تمثل نقصانه ومداخل لفهم ما لم تظهره سطوحه.
س- لماذا قررت استدعاء التأريخ وربطه بالأحداث الجارية في روايتك؟
ج- لا يمكن للرواية أن تنكتب إلا بوصفها كلمة حول التجربة الزمانية لكاتبها الذي هو نفسه نتاج للتاريخ. ولهذا لا تنفلت الرواية من حركة هذا الأخير مهما اتسمت بالصمت حول أحداثه. لكن استدعائي تاريخ المغرب المعاصر كان بغاية فهم تكون النخبة بالمغرب وأصولها. وما كان لهذه المهمة أن تتم بمعزل عن السياق الزماني الذي شهد تكوينها، وأفضى إلى ما هي عليه اليوم من اتصافات ملتبسة ومقلقة. هذا فضلا عن كون التاريخ في نهاية المطاف ما يلفظه المؤرخ في الطريق ولا يلتقطه، وعلى الروائي أن يمنحه لسانا حتى ولو كان متلعثما.
س – كيف يتعامل الروائي مع التاريخ؟
ج- يعد التاريخ وقائع بالنسبة إلى المؤرخ يسائلها في ضوء مصادر أرشيفية، ولا يسمح لها بإدخال الخيال إليها من طريق افتراض “لو”: لو لم تقع الأحداث على هذا النحو، ووقعت على نحو آخر”، بينما تعمل الرواية بتخييل التاريخ من طريق إضاءة ثغراته بما ظل على هامش التاريخ بوساطة ممكنات التخييل، ولعل رواية “الحجر والبركة تتحدث عن التاريخ انطلاقا مما تتيحه فسحة المعيش والذاكرة ومقتضياتهما؛ فحدث 1965 مصوغ من خلال فعل القنال (صباح) أكثر مما هو مصوغ من خلاله بوصفه لحظة سياسية- تاريخية. كما أن الاعتقال السياسي في السبعينيات منظور إليه من خلال الفن والحياة أكثر مما هو منظور إليه من زاوية الأحداث السياسية التي عرفتها هذه الآونة من تاريخ المغرب المعاصر.
س- إلى أي مدى تتعايش مع بطل روايتك، وهل تضفي عليه بعضا من صفاتك الشخصية أم تتركه لتحديد مصيره بنفسه؟
ج- لا شك في أن الروائي الذي يجعل حياته وفكره مصدرين رئيسين تستقي منهما شخصياته وجودها هو روائي فاشل أو على الأقل روائي أخطأ طريقه إلى الرواية.. الروائي الذي هو جدير بفن الرواية هو ذاك الذي يخيل ما لم يعشه؛ ما ظل ممكنا في حياته ولم ينتهجه، وينبغي أن ندرك أننا نتكون مما لم نحققه في حياتنا أكثر مما حققناه؛ ولكي نفهم الحياة نفسها علينا الرؤية إليها من متاح التضافر بين الضائع والمتعذر تحققه. ولا يمكن فهم معضلة اليوطوبيا الروائية إلا في هذا الإطار حيث يجلل النقص كل علاقتنا بالعالم.
س– الرواية بها مساحة كبيرة من التجريب على مستوى البناء واللغة والأحداث أي مدى تمثل لك الكتابة رحلة بحث واكتشاف لذاتك وللعالم؟
ج- الرواية التي تروي الحكاية فحسب ليست برواية، حتى الجدات يعرفن كيف يروين الحكاية وعلى نحو متقن. وأظن ان الرواية الجيدة ليست سوى تلك التي تحكي حكايةَ شكلها ومأزق تعذر تمامه. وينبغي فهم كون التجريب ليس نزعة تميز الكتابة، بل هو خاصية ملازمة لها؛ فمن محددات الأدب المغايرة المستمرة. ولا تتحقق هذه الأخيرة إلا بارتياد آفاق شكلية جديدة مغايرة للسائد والمعروف. وليس هذا النزوع إلا بحثا عن الشكل الأنسب الذي يلائم تحولات العالم وتقلباته بما يساهم في فهمه. وكل قعل من هذا النوع هو تعبير عن رغبة مركبة من اكتشاف الذات لنفسها، ومن اكتشافها في العيش تخييلا في عوالم لم يسبق أن جربتها.
س- هل حدث أن تمردت عليك إحدى شخصياتك الروائية وارتأت غير ما ارتأيت ككاتب؟
ج- لا شك في أن من الطبيعي أن تتمرد عليّ الشخصية لأنها لا تمثلني، بل تمثل ما لم اكنه، وربما ما يخيفني، وتحمل من الجرأة ما ليس بمكنتي.. إنها تمتلك منطقها الخاص الذي يفرض علي في كثير من الأحيان أن أتخلى عن خياراتي التي لها منطق مخالف، وتجبرني على الإصغاء إلى أفكار مناقضة لأفكاري، وترغمني على رؤية ما لا أراه عادة، ورؤية ما هو مهم ويكون في متناول يدي، لكن لا أتنبه إليه عادة. ودعنا نعبر عن القضية بطريقة مختلفة: ربما تساعدني الشخصية الروائية على التمرد على نفسي، وتعطي للساني القدرة على عصيان المباح.
س– هل تتعبك الكتابة، هل هي فعلاً كما يصفها البعض كجلد الذات؟
ج- أظن أن الامر يتصل بالرؤية إلى الكتابة، هناك من ينظر إليها بوصفها حرفة، وهناك من ينظر إليها بصفتها ممارسة تتصل بالوجود.. وأظن أن الكتابة لا تتعب إلا إذا اتصلت بالحرفة والمردود المالي، أما في الحالة التي تكون فيها الوجود ذاته فهي لا تقل متعة عن كل الأشياء الباعثة على الفرح.. ولي كامل البقين أنني أنتمي إلى هذا الصنف الثاني، حتى إنني أحزن لما أنتهي من كتاب ما لأنني أشعر بفراغ وجودي مقلق.
س- تكتب بحنين للأمكنة، ماذا يعني المكان للروائي عبد الرحيم جيران؟
ج- السلحفاة تحمل بيتها فوق ظهرها، أما الإنسان فقدره أن يغير الأمكنة باستمرار، ولهذا فهو شديد الارتباط بتاريخ آخر غير التاريخ الحدثي.. تاريخ الأمكنة التي شكلت مروره في هذا العالم.. وليس المكان في نهاية المطاف إلا بحثا عن الجنة الضائعة التي تشكل متخيلنا، وتعود أصولها إلى الرحم الذي هو مكان الاكتمال وعدم الحاجة وعدم العناء؛ ومن ثمة فكل الأمكنة التي نتخيلها أو نستعيدها عبر التخييل ليست سوى استبدال للرحم. ولا نستطيع روائيا أن نفعل هذا إلا من خلال متاح الرؤية إلى المكان الذي نحن فيه في الحاضر من خلال الأمكنة التي شكلت تاريخنا القديم.
س-صدر لك أيضا من قبل في مجال الرواية” عصا البلياردو”، ” كرة الثلج” وفي مجال القصة “ليل غرناطة”، “رياض الخاسرين” وفي الشعر “سيرة شرفة” وصدرت في النقد عدة كتب أيضا.. كيف تري تلك الرحلة الأدبية؟
ج- صرحت في حوارات عديدة بأنني أنتمي إلى القرن التاسع عشر، وأكرر اليوم الاقتناع نفسه، فهذا القرن كان قرن الموسوعيين العظام. لقد كنت أرفض منذ شبابي التعين داخل إطار محدد مغلق، سواء أتعلق الأمر بالإبداع أم بالمعرفة؛ هناك دوما شيء ما ينفلت في هذا الفن أو ذاك، ولا يستطيع القبض عليه إلا غيره من الفنون الأخرى. إن الأدب لا يتجزأ عندي، وكل أشكاله تتكامل، وتتبادل إمكانات التعبير عن الوجود في ما بينها. وربما كان هذا التنوع هو ما يجعل ذاتي تتماسك أمام نثر الواقع. ولعلي ما زلت أنظر إلى هذه التجربة الطويلة والمتنوعة مثل ملاح لا تصنع تجربته أهوال البحار بقدر ما تصنعها المراسي.
س- أين أنت من الشعر؟ وهل يقلقك تراجع الشعر عن حضوره في المشهد؟
ج- كان الشعر بالنسبة إلي التجربة الأولى في الكتابة، ونشرت نصوصي الشعرية الأولى في السادسة عشرة من عمري؛ لكنني أشعر بالرهبة تجاهه، إنه مقدس، لكن أسيء إلى قداسته من قبل المتطفلين. لم أصدر ديواني الأول إلا في 2016، ولم أفعل هذا إلا بعد إحساسي بأنني قد عثرت على أسلوبي الشعري الخاص.. أظن أن الشعر لم يتراجع اليوم، من يقول بهذا فهو في حاجة إلى الإصغاء إلى تاريخ الفن.. ما تراجع هو من ينتج الشعر.. الشعراء لم يكونوا في مستواه، وغب مستوى جعله أكثر اتصالا بحركة الزمان.. وعلى العموم كان الشعر الحق- لا الخطابي- دوما نخبويا.. وهذا قدره.
س- ما هي مشاريعك القادمة وماذا تكتب الآن؟
ج- مشاريع عديدة…. أولا على مستوى النقد، هناك الجزآن المتبقيان من كتاب “لما تكلم الحكي” الذي صدر عن معهد التراث بالشارقة، ويتصل الأمر بقراءة جديدة لألف ليلة وليلة، وكتاب حول الهوية الحكائية، وكتاب في التأويل الأدبي؛ وثانيا على مستوى الإبداع، هناك رواية “البندول ودودة القز” أنجزت النصف منها، وديوان شعري ثان “الفارس والراقصة” أنجزت منه شطرا هاما.. أتمنى أن يسعفني العمر والصحة على إنجاز هذه الأعمال.
س- فزت بجائزة المغرب للسرد. ماذا يعني لك ذلك؟
ج- دعنا نقل: لقد فازت رواية “الحجر والبركة”، ربما هذا ييسر فهم الأشياء، ويختصر المعنى الذي يكمن خلف سماعي الخبر، والذي يكمن في اعتراف رمزي له قيمته بانتسابي إلى شجرة الأنساب الروائية.. لكن هذا أسلوب ماكر في التعبير عن هذا الانتساب؛ إذ ليست رواية “الحجر والبركة” في نهاية المطاف سوى رفض للتفرع الذي توحي به لفظة الشجرة؛ ولا يعني هذا التمرد على انتماء إلى الشكل الروائي كما فُهم ومورس، ولا يعني أيضا الفهم الدولوزي الذي يضع العشب مقابل الشجرة في ثنايا مقارنته الرواية الأوروبية بالرواية الأمريكية، بقدر ما يعني إعادة الاشتغال على انتساب آخر مختلف قوامه مفهوم الزقاق. لقد عبرت عن تصوري للرواية هذا (كما ينبغي أن تكون في العالم العربي) في موضع ما من كتاباتي، ومهما كان الأمر فإن المعنى من فوز “الحجر والبركة” هو اعتراف بصلاحية هذا الانتساب المختلف واحتفاء به. وهذا التتويج يسعدني بطبيعة الحال، وله نكهته المميزة في حياتي..
س- من النقد إلى الرواية ومن الرواية إلى السرد. أي لذة في ه ذه المراوحة؟
ج- ربما كان الإبداع هو الأصل، فلقد أتيت منه إلى النقد، وليس العكس. وقبل الرواية كان الشعر والقصة القصيرة، فقد ابتدأت شاعرا منذ السبعينيات، وجربت القصة في مستهل الثمانينيات. كما جربت الكتابة المسرحية- وهذا ما لا يعرفه الكثيرون- في عام 1982 بالمشاركة بمسرحية “صرخة مجنون” في إقصائيات مسرح الهواة، وكان مخرج المسرحية هو إبراهيم بوبكدي مؤلف المسلسل التلفزيوني “حديدان” الشهير. ما مسوغ كل هذا التعدد؟ ربما هو الإحساس بكون الواقع الإنساني معقد ومركب، وله مداخل متعددة، وليس بمكنة فن واحد القبص عليه والتعبير عنه؛ إذ يظل جانب من هذا الواقع مستعصيا عليه، ولا يُستطاع التعبير عنه إلا في فن آخر له القدرة على تكليمه. وربما كان هوسي بالتكوين الموسوعي وراء هذا الانتقال بين أجناس تعبيرية مختلفة، لكن هناك أمر لا يقل أهمية عن كل هذا، وفي ظني أنه يعد الجسر السالك بين المعرفة النظرية (نظرية الأدب) والتطبيقية (النقد) وصنوف الفنون المختلفة، وهو هاجس الابتكار. ومعنى هذا أن النقد ذاته يتوفر بدوره على جانب من الإبداع (غير فني بطبيعة الحال) يتمثل في القدرة على خلق المفاهيم والأفكار الجديدة؛ ومن ثمة تتمثل اللذة في النقد- التي تكاد تماثل اللذة الفنية- في اقتناص المنفلت غير المرئي في النصوص، بوساطة اصطناع وسائل غير مطروقة من قبل. ويخطئ من يظن أن النقد لا يشارك الفنون الأدبية في الرغبة في فهم العالم والوجود، بل ربما كانت هذه الرغبة فيه أكثر تعقيد، بحيث إنها تتسم بفهم للعالم مضاعف: فهمه كما تعبر عنه النصوص الإبداعية وفهمه من خلال تاريخ المعرفة. وعلى العموم يشكل الانتقال من النقد إلى الإبداع (سواء أكان رواية أم غيرها) بالنسبة إلي تجريب الإبداع في منطقتين تتكاملان: منطقة التجريد المفهومي ومنطقة التشخيص الاستعاري.
س- أعطنا حديثا عن الرواية الفائزة “الحجر والبركة”
ج- لا تخرج هذه الرواية عما أجبت عنه في السؤال الأول؛ إنها تسعى إلى تثبيت تصور زقاقي للرواية؛ وينبغي فهم البعد الاستعاري للزقاق هنا بمعناه الهندسي الشكلي، لا بمعناه المعجمي.. الزقاق يقودك من مدخل إلى مخرج عبر التواءات، وفي أثناء مرورك به تصادفك أبواب على الجانبين، وكل باب ينغلق وينفتح على مصير- حكاية؛ فالحكاية الأم (حياة سليمان) في الرواية تشكل الخيط (الزقاق) الرفيع الذي يلحم حكايات الشخصيات الأخرى المختلفة والمتعددة. لكن ينبغي التنبه هنا إلى أن انفتاح أي باب في أي زقاق كيفما كان هو انفتاح على الأصداء الآتية من الأبواب الأخرى. وهذا ما يحدث في رواية “الحجر والبركة”؛ إذ سليمان يحكي سليمان حكايته من خلال حكايات الشخصيات الأخرى التي شاركته الحياة في تقلباتها وتحولاتها. وموضوع الرواية يتمثل في تشخيص سؤال تجردي عبر التخييل: إلى أي حد لا تكمن مشكلة الإنسان العربي في انشطاره التاريخي، لا النفسي، وعدم قدرته على العثور عن وحدة أخرى جديدة تلحم انشطاره هذا؟ فسليمان يستشعر في ذاته هذا الانشطار وبعاني منه؛ فهو قروسطي وحداثي، ومثالي وواقعي، ومتحمس ونكوصي… الخ. ولا يعرف كيف يجعل هذه الثنائيات تتصالح داخله أو ينتصر إلى أحد أطرافها حاسما في اختياره. يتجلى هذا الانشطار في لقبه “الثنائي” كما يتجلى في بنية ضمير السارد الذي يتراوح بين ضمير المتكلم والمخاطب. ولا فصل الفهم الزقاقي للرواية عما نسميه بالواقعية التنسيبية التي تتأسس على تعدد الواقع وتعذر اٌلإمساك به كما هو جريانه الخاص؛ ومن ثمة فالشكل الروائي الممكن القادر على تكليم هذا الواقع هو ذاك الذي يعدد الحاكية الواحدة ويرويها بطرائق مختلفة. وهذا ما نلمسه في رواية “الحجر والبركة” حيث تروى الحكاية مرتين أو ثلاث بطائق مختلفة، وأحيانا يحدث نوع من الخلط في الحكايات فتصحح نسبتها إلى هذه الشخصية أو تلك. والغاية من هذا الإجراء الأسلوبي ماثل في وضع “الحقيقي” بين قوسين وتعليقه. كما أن هذه الرواية لا تخرج عن الأسلوب الشخصي الذي اتبعته في روايتي “عصا البلياردو” و “كرة الثلج”؛ حيث يستقى الشكل الروائي من العنوان؛ ما أن ترمي بحجر في بركة ما- كانت آسنة أم لا- تحدث دوائر، والرواية تتكون من اثنتي عشرة دائرة، وهذا الرقم له أهميته؛ فهو عدد حروف العنوان، ويشير رمزيا إلى فصول السنة، ومن ثمة إلى الشمس، واسم “سليمان” كما ينطقه المؤلف “صولاي مان” يتضمن مفردتين هما: مفردة “صولاي” (الشمس) الفرنسية، ومفردة “مان” الأنجليزية؛ والجمع بينهما ينتج اسما جديدا “الرجل الشمس”. على العموم.. تتضمن الرواية أسرارا أخرى عديدة، أفضل أن أترك أمر الكشف عنها للقراء والنقاد.
س- ما دور الرواية اليوم في نشر المعرفة؟.
هناك اليوم أصوات تصدر عن بعض النقاد وكتاب الرواية تستنكر أن تكون الرواية ذا صلة بالمعرفة؛ وينم في نظري صنيع من هذا القبيل عن جهل غير مقبول بتاريخ الرواية، وبنظريتها، وعن قصور في فهم التحولات الجارية في مجال التعبير الفني المعاصر. لقد كانت الرواية دوما في اتصال بالفلسفة والفكر وتعبر عن نفسها انطلاقا من أسئلتهما، بل كانت في اتصال بمختلف الفنون الأخرى. وهناك عديد من الأمثلة في هذا الصدد: “كانيد” لفولتير، “البحث عن الزمان المفقود” لمارسيل بروست، و”مزيفو النقود” لأندري جيد، و”الجبل السحري” لتوماس مان، و”صورة الفنان في شبابه” لجيمس جويس…الخ. ويستدعي أمر من هذا القبيل أن يكون الروائي مطلعا على النصوص الفكرية الهامة التي تسعفه في فهم العالم، من دون هذا سيكون كمن يحكي حادثة وقعت هنا أو هناك كما يفعل جميع الناس من أجل تزجية الوقت، وفي ظني أن الرواية لا تتصل بمهمة يومية مثل هذه، لأنها ربما كانت أكثر جدية من الفكر ذاته؛ وينبغي فهم الجدية هنا بمعنى الفائدة، لا الصرامة المتجهمة. وإذا ما اكتفينا بالحكاية التي تقنع نفسها بما هو حدثي ففن السينما يفعل هذا، ويوفر على الإنسان تعب القراءة وصرف الوقت الطويل في تنفيذها؛ ومن ثمة فهي تسلب الحكي الروائي ميزة تزجية الوقت التي ظن كثيرون أنها ميزة الرواية. ولهذا ما تبقى أمام الرواية هو جوهرها الأصيل الماثل في تجسيم المعرفة وتقديمها على نحو تخييلي، أو العمل بمحاورتها من داخل عالمها التخييلي. وخاصية فنية من هذا القبيل لا تتوافر لغيرها من الفنون؛ وهي ما بمستطاعها أن تمنحها القدرة على البقاء ومقاومة كل الأشكال التي تنافسها، وتشاركها تخييل العالم بوساطة التحبيك.