يثير الاستفهام في عنوان هذه المقالة جملة من القضايا المرتبطة بالصراع الدائر اليوم في المجتمعات العربية، وهو يشير إلى القيود التي يمارسها تأويل محدد لمنظومات التراث ومفاهيمه في الثقافة والمجتمع العربيين. وتقف وراء هذا السؤال طبيعة الصور الغريبة التي توظف بها اليوم مفاهيم التراث في حلبة الصراع السياسي، حيث يتم التلويح بشعارات تستدعي مفردات وتصورات تحيلنا إلى لغة قديمة لا علاقة لها بمجمل التحولات، التي انخرطت فيها المجتمعات العربية منذ ما يزيد عن قرنين من الزمان، وهي لغة تعادي التاريخ والعقل، وتعادي قدرة الإنسان على بناء ذاته ومجتمعه كذلك.
أود التنبيه، قبل الإجابة عن السؤال، إلى وجود خلط شائع في هذا الموضوع، أقصد موضوع التراث والتقدم، إذ تتم مرادفة التراث بالدين والمقدس، والأمر ليس كذلك في نظرنا، بحكم أن المنتَج التراثي أكبر من المرجعية الدينية، إضافة إلى ذلك نشير إلى أن التراث ليس موضوعًا مغلقًا واحدًا، قدر ما شكل ويشكل عمليات تاريخية في التشكل الثقافي الرمزي، وهو يشير إلى تصور مفتوح، لا يمكن إغلاقه على فترة معينة من الزمن، زمن النبوة أو العصور الوسطى على سبيل المثال، كما لا يمكن إغلاقه على تأويل مطلق ونهائي، هذا بالإضافة إلى أن التراث تغذيه باستمرار روافد جديدة، تحصل بفعل تفاعل المجتمعات الإنسانية فيما بينها، عبر حقب التاريخ وحلقاته المتواصلة.
وإذا كان منتَج التراث المحدد لبنيات الثقافة والمجتمع في عصورنا الوسطى يعكس كيفيات تفاعل أسلافنا مع المعطيات الثقافية السابقة عليهم والمعاصرة لهم، فإن هذا المنتَج لم يعد اليوم عنوانًا وحيدًا لقارة التراث في فكرنا ومجتمعنا. فقد تبلور في فكرنا الحديث خلال القرون الثلاثة الأخيرة مرجعيات جديدة في الفكر وفي الحياة، رتبت بدورها طبقات من المعارف والخبرات والدلالات التراثية الجديدة، الكاشفة عن أنماط تفاعلنا مع منظومات الفكر في الأزمنة الحديثة، وعكست صور إعادة بنائنا لتحولات الفكر والمجتمع في عالم جديد. ولو أردنا تشخيص التجليات التراثية في حاضرنا، لوقفنا على غلبة الطابع المحافظ على هذه التجليات. يتمثل ذلك في الكتابات السلفية الجديدة والسلفية الجهادية، كما يبرز في التيارات السياسية الدينية التي اختارت طريق العنف، ويعبر عنه الفكر الدعوي بصورة أخرى، إذ يكتفي باجترار وتكرار المعطيات المستلة من المتون والمصنفات القديمة، دون أدنى عناية بالسياقات والشروط المعرفية والتاريخية التي منحتها المعاني والدلالات التي ارتبطت بها.
ويبرز المظهر المحافظ أيضًا في الفتاوى التي تعكس جوانب من بؤس الثقافة المحافظة في مجتمعنا، إذ تستخدم الفتاوى لتجييش الجماهير بلغة الدفاع عن الدين. ونقرأ في الاستدعاء الذي تم فيه مؤخرًا التلويح بالخلافة، على سبيل المثال، ما يؤكد طغيان الاستخدامات التي تلوح بمفردات لا علاقة لها بالحاضر وأسئلته في السياسة والتاريخ.
لا تعبر المظاهر التي حددنا في الفقرات السابقة وحدها عن كل صور استحضار التراث في الحاضر العربي، ذلك أننا نجد بجانبها وفي تقاطع معها محاولات في تأويل التراث، بطريقة تتجه لمحاصرة أوجهه المحافظة وإبراز ما يسمح بتوظيفه إيجابيًا في حاضرنا. وتعتمد المقاربة الثانية، رغم محدودية حضورها وأثرها على مسعى يروم إعادة بناء الموروث الثقافي، وذلك بوضع حدوده ورسم المعالم الكبرى لسياقاته التاريخية والنظرية العامة.
تندرج المواقف التي يستوعبها المظهر الأول وبصورة عامة ضمن التقليد السلفي الحديث، إذ يتم استحضار المنتوج التراثي والمرجعية التراثية في دائرة الدفاع عن الهوية وتحصينها باسم المحافظة على الاستمرارية التاريخية، يتم الدفاع المذكور في سياق رفض السلفيين بمختلف فصائلهم إنجاز التصالح مع مقتضيات المجتمع الجديد، بكل ما يتطلبه ذلك من قطع وتجاوز لكثير من معطيات الموروث.
يمكن، بناءً على ما سبق، أن ندرج الحضور المكثف لقراءة محددة لموروثنا الثقافي ضمن دائرة القيود الذهنية الصانعة اليوم لكثير من مظاهر غربتنا عما يجري في العالم من حولنا، إلا أنه من حسن حظنا أن بجوار ما ذكرنا، تنشأ مواقف ومظاهر أخرى تشير، رغم ندرتها، إلى صور أخرى من تعقلنا بإرثنا الثقافي. نحن نشير هنا إلى القراءات التي برزت في العقود الأخيرة من القرن الماضي، محاولة التعامل مع التراث والظاهرة التراثية بأساليب جديدة في النظر، حيث قاربت الظواهر الثقافية بالأدوات المنهجية الجديدة، التي تبلورت في مدارس الفلسفة والعلوم الحديثة والمعاصرة.
وقد باشرت هذه المقاربات عمليات مراجعة جديدة للقارة التراثية انطلاقًا من مشروع نقدي، يتوخى صوغ حدود معرفية وتاريخية وإيديولوجية لمحتواه، في علاقته بتحولات التاريخ ومجرى الزمان، وفي علاقته أيضًا بمكوناته البنيوية العميقة، ومن أبرز الأمثلة على هذه المقاربات مشروع نقد التراث الذي يكشف عن جهود تروم كسر القيود التي ركبتها القراءات المحافظة، وذلك باعتماد مقدمات جديدة في تأويله، إذ تعمل على تحقيق نوع من المواءمة بين منتوجه وأسئلة الحاضر.
يقترب من مشاريع نقد التراث ونقد العقل العربي، جهد آخر يبحث في التراث عن جاذبية الماضي، وعبق روح الأجداد، وعن جذور التاريخ، وهي تتآكل، يتعلق الأمر بالمحاولات السيميائية التي تعيد المتخيل التراثي، والمنتَج التراثي عمومًا، بتوسط أدوات مدارس النقد الجديد، المبلورة لوسائل تتيح إمكانية قراءات تخوض في طقوس نسج العبارات والمعاني كما حفظتها متون عصورنا الوسطى، خارج أسئلة التاريخ والزمان. نحن نطلق على هذا النوع من التعامل مع التراث “قراءة المتعة”، إذ تقوم الكفاءة التخييلية المعاصرة بإعادة بناء المتخيل الوسيطي، في إطار من لعبة كشف المخبوء، وإزاحة الغطاء عنه، لتجليته وتعريته. وقد تكون هذه المقاربة التي تهتم بلذة النص، أكثر اقتناعًا بمبدأ القطيعة وكونية الموروث الإنساني خارج أقنوم الهوية، وذلك بحكم أن إشكالية الهوية وتوابعها لا تندرج ضمن أفقها في القراءة والإبداع.
ونكتشف في حقل الدراسات التراثية المعاصرة فضاءات عديدة للعناية بفحص وتفكيك ونقد التراث، ومحاولة التخلص من هيمنة المقاربة الصنمية له، وذلك بهدف تملكه وفك القيود التي ترتبت على القراءات المحافظة له. وإذا كانت تيارات الإسلام السياسي تستعيد اليوم جوانب من المنظومة التراثية بصور دفاعية تجييشية موظفة تراثنا توظيفًا حزبيًا، إذ تعمل على ربط التراث بالهوية، مغفلة الطابع المتغير للمنتَج التراثي الذي لا يمكن إلصاقه بهوية نفترض أنها مفتوحة على روافد لا حصر لها من ماضيها وحاضرها ومستقبلها أيضًا.
فهل نستطيع تركيب أجوبة عن أسئلة زماننا دون التفات إلى الماضي؟ أم أننا سنظل نعتمد على ماضينا في معالجة أسئلة حاضرنا؟