حكيم عنكر*
كشف خطاب الملك محمد السادس، بمناسبة بلوغه عامه الـ 52، أن جزءا كبيرا من المغاربة فقد شهية الذهاب إلى صناديق التصويت لممارسة حقه الدستوري. جاء هذا على بعد أيام من الانتخابات البلدية في المغرب التي تجري في 4 سبتمبر/أيلول المقبل. وهذه أول انتخابات تجري في عهد حكومة يقودها الإسلاميون، الحكومة “المتبقية” من حكومات الربيع العربي التي نجت من أهوال الخريف.
وما من توصيف لذلك إلا في أن الحدث السياسي في المغرب معدوم، وأغلب ملامحه تزداد ميتة. فالمغاربة يعرفون جيداً، بحكم التراكم ومرور الوجوه في المناصب والمسؤوليات، أن لا أحد من بين الفاعلين السياسيين يستطيع أن يقنعهم بشيء في ظل حالة الجمود العام. حتى من كانوا يرفعون الشعارات الرنانة، ويزيدون الحماسة وسط الناس، عادوا إلى قواعدهم خائبين. اكتشفوا متأخرين أنهم لا يملكون القدرة على إدارة اللعبة، وأن المبادرة الحقيقية موجودة في جهة أخرى.
والسؤال اليوم، من أين للأحزاب السياسية كل هذه القدرة الشنيعة على النسيان، لكي تعيد تكرار شعاراتها نفسها في مناسبات انتخابية مثل هذه؟ وبأي “وجه” ستتوجه إلى المغاربة؟ وأي حديث ستحدثهم، هل عن الشغل؟ الصحة؟ العدل؟ الكرامة؟ الأجور؟ العدالة الاجتماعية؟ الرشوة؟ الفساد العام؟
هذه الأحزاب التي لم تسلم هي نفسها من ملاحظات المجلس الأعلى للحسابات: عدم شفافية في الصرف، لا مستندات، لا إدارة مالية واضحة، ما يلقي أسئلة كثيرة على المرفق الحزبي المنوط به “تخليق” الحياة السياسية.
فالدولة تقدم دعما ماليا جزافيا للأحزاب، لكن هذا الدعم عندما يصل إلى أيديها تتصرف فيه على مشيئتها، وتعتبره جزءاً من المكتسبات التي تساعدها، ليس على التدبير الانتخابي، ولكن على حل مشكلاتها المالية المتراكمة.
يشير واقع الانتخابات المشهود في المغرب إلى حقائق أخرى، منها أن الإنفاق على الحملات الانتخابية، حتى وإن كان يقع تحت مراقبة الدولة في شخص وزارة الداخلية، فإنه لا شيء في القانون يمنع من أن تكون حملة من الحملات الانتخابية لأكثر من مرشح “دسمة” للغاية، وفيها كرم زائد، يبدأ بالولائم التي تنظم تحت غطاء أفراح وأعراس مدفوعة الأجر ومناسبات إعذار لأطفال، ولا يجد المرشح “الذكي” صعوبة كبيرة في العثور على عرسان جاهزين، أو أطفال في سن الختان، أو مواليد جدد لإقامة حفلات عقيقة، وهكذا يتحول العرس الانتخابي إلى بورصة مال وأعمال، تحت لافتات كثيرة يصعب ضبطها أو تكييفها قانونيا.
وحتى إلى حدود الانتخابات الحالية التي انطلقت حملاتها، هناك نوع من التقسيم الجغرافي الانتخابي، فالعالم القروي ملك انتخابي للأحزاب التقليدية المصنفة ضمن اليمين السياسي، وهي أحزاب تتكون من الأعيان، شارك أغلبها في الحكومات التي عرفها المغرب، واستقطبت إليها النخب الليبرالية الجديدة، في محاولة لتجديد نفسها، لكن توسعها التنظيمي والقاعدي ظل دائما يتجه رأسا نحو القبيلة، وما تمثله بالنسبة إليها من خط أمان، ومن صناديق أصوات مضمونة.
في حين ظل نفوذ الأحزاب التاريخية مقصورا على مدنٍ كبرى، والمكونة أساسا من الطبقة المتوسطة التي كانت لها تطلعات سياسية نحو الديمقراطية ودولة الحق والقانون، وهذه الطبقة هي من كانت تساند كل المبادرات نحو التقدم والقطع مع أساليب الماضي.
لكنها تجد اليوم نفسها في وضع التراجع، بعد أن تعرضت للإجهاز على مكتسباتها، بسبب الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه الطبقة المتوسطة، رهان المغرب الديمقراطي، وتتكون أساسا من رجال التعليم ومن الأطباء والتجار المتوسطين وأصحاب المهن الحرة، ومن الموظفين متوسطي الدخل في القطاعات العمومية، لكنها تعيش وضعا اقتصاديا مترديا يحول دون أن ينجز المغرب النقلة النوعية التي يتوخاها في مجالات تخليق الحياة العامة والنهوض بالشأن السياسي.
اللوحة قاتمة، ولونها أصيل وليس مفتعلا. والخطابات المتداولة حتى الآن تعطي أكثر من إشارة إلى أن بقاء الأمر على ما هو عليه سيؤدي إلى الحافة، حيث السقطة حرة.
* شاعر وصحافي مغربي، من مواليد 1968، عضو اتحاد كتاب المغرب، صدر له كتابان شعريان “رمل الغريب” في 2001 و”مدارج الدائرة” في 2006. سكرتير تحرير مساعد في جريدة “العربي الجديد”.